سُلطة الحُبّ- قوة القيادة والإدارة بالإحسان والقبول

المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.22.2025
سُلطة الحُبّ- قوة القيادة والإدارة بالإحسان والقبول

لطالما تغنّى الشعراء بالعشق والهيام، فها هو قيس بن الملوّح يخاطب ليلى قديماً ببيت شعري خالد: «أهابُكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌ، عليَّ ولكن ملءُ عينٍ حبيبها». هذا البيت، المفعم بحيوية العشق المتوقد، يشدد على أن للحبيب هيبة عظيمة، لا تقلّ بحال من الأحوال عن هيبة المحارب الشجاع، لا سيما إذا كان هذا الحبيب هو من يملأ العين، ويُغني عن التطلّع إلى غيره، يمنةً ويسرةً. إن إجلال المحبّ لمن يحبّ هو اعتراف ضمني بقيمة وقوّة الحُبّ الصادق، الذي يتحوّل إلى سُلطة مهابة، تمنع وتحدّ من خدش العلاقة بأي قول أو فعل مشين.

إنّ للحبّ سلطاناً ليس كسائر السلطات، فهي سُلطة ترجّح المحاسن على المساوئ والعيوب، فكما قيل: «وإذا الحبيبُ أتى بذَنْبٍ واحدٍ، جاءت محاسنُه بألفِ شفيع». فما من مُحبٍّ يهاب حبيبه إجلالاً وتقديراً له إلا دام حبهما، وتوثقت عُرى علاقتهما، وتجذّرتْ أسباب استمرارها. فشتّان بين من يهابك إجلالاً وإكباراً، وبين من يهابك خوفاً وإذلالاً.

قد يثير العجب أن فقهاء السياسة الشرعية لم يضعوا قواعد تفصيلية في فنّ إدارة (الرعيّة) بالمحبّة، على الرغم من أن آيات الذكر الحكيم تزخر بالوصايا الداعية إلى الحّب واللطف والعفو والتسامح. فالله، عز وجل، توعّد المؤمنين، إن ارتدوا عن دينهم، بأنه سيأتي بقوم يُحبّهم ويحبّونه، فبدأ بمحبته -جل وعلا- لهم، قبل محبتهم له، والله يُحبُّ المحسنين، ولا يُحبُّ المعتدين الظالمين؛ والنصوص الشرعية السمحة تعلي من شأن الرِفق واللين، وتزكّي كفة الإحسان في المعاملة، على المستويين العام والخاص.

قد يكون من طبيعة السُّلطة، في بعض الأحيان، أنها تميل إلى القسوة والشدة، لا عن رغبة وقناعة من يتولى زمام الأمور، بل قد يعود ذلك إلى طبيعة الجِبّلة البشريّة لبعض الشعوب، التي قد تأنس للدعة والفوضى والعبثية في بعض الأحيان. فالحزم ضرورة لا غنى عنها لإقامة العدل والحق، وكما أنه لا وصول للجنة إلا على صراط ممتد على الجحيم، مصداقاً لقوله تعالى (وإن منكم إلا واردها) فكذلك شأن الحياة والأحياء؛ لا بلوغ لحالة السّلم الاجتماعي، والتعايش الرغيد، وتطبيق الأنظمة والقوانين، إلا بهيبة دولة قوية، وجسارة حاكم عادل حكيم، ورُقيّ تشريع قويم، وعدالة تطبيق شاملة.

مما لا شك فيه أن بعض الحكّام في التاريخ الإسلامي، إضافةً لأهليّتهم البيولوجية والعلمية، والإدارية الفذة، كانوا أصحاب فقه متعمق في دين الله، ولديهم إحاطة واسعة بالتاريخ، ما دفعهم لإعلاء شأن المحبّة، وتجنب الكراهية والبغضاء، خصوصا عندما يوقنون بأن شعوبهم يغلب عليهم الجانب العاطفي، فيحرصون على حفظ شعرة المودة والوئام، ويحمونها من شرور ومحفزات القطيعة والجفاء، خصوصاً القطيعة المعنوية.

لعله من أوثق عُرى علاقة الإنسان بربه -جل وعلا- ناشئة عن محبة مخلوق، وقبول من الخالق، فالمحبة تُنتج طاقة إيجابية دافعة للإحسان والعطاء والسمو في القول والفعل والأخلاق الحميدة، وكلما زاد الحُبّ لله، صدقاً لا ادّعاءً وتظاهراً، استشعر العبد هيبة الله، وتحاشى أي موطن سوء أو ريبة، فالحياء ممن تحبّ ليس كالحياء ممن تخاف، والذي يخاف الله بصورة مبالغ فيها (مَرضيّة) تبلغ مرحلة الهلع والوجل الشديد، ربما يقع في اليأس والقنوط من رحمة الله الواسعة، وتنقلب العلاقة إلى نفور وجفاء، وإن تسامى جناب الربوبية عن القطيعة والجفاء.

أرى أن السُّلطة بالحب، هي أقوى وأرسخ من التسلّط بالحرب والقوة الغاشمة، لأن الذين غلّبوا سُلطة الحرب خسروا واندثروا وزالت آثارهم، ولطالما ذهبت سلطات الحروب، بالطالب والمطلوب على حد سواء، لأنّ المحارب جل اهتمامه هو الأخذ والانتقام، أما المُحبُّ فكل تفكيره وتركيزه في العطاء والبذل؛ فالمحبة هي الدافع الأعظم للفداء والتضحية في سبيل من غرس في روحك محبته، وهي سلطة أدوم وأكثر عافية واستمراراً، وليست ظاهرة السُّلطة بالحُبّ قاصرة على علاقة شعب وحاكم، بل تتعدى ذلك إلى كل علاقة إنسانية، يشعر كل طرف أن علاقته بالآخر تحكمها، سلطة شعورية وجدانية، تتمثل في القبول والرضا والامتثال لأوامره، والتسامح والتجاوز عن زلاته، والتغافل عن الهفوات، وعدم التركيز على الهنّات والزلات.

كم يؤسف الوعي ويدمي الفؤاد، أن تتحول علاقة أزواج، من باحة الحُبّ والوئام إلى ساحة حرب ضروس، وأن يمارس كل من الأب والأم؛ على الأولاد سلطةً رعناء ظالمة، تفقد الأسرة حلاوة المحبة، وتنقلب إلى كراهية وبغضاء أو تمرد وعصيان، فالسُّلطة بالحُبِّ، هي فنّ إدارة راقية بإرادة واعية، ولا يعني ذلك، بث الرعب والخوف، أو التنفير والتقريع، بل توفير المساحة الآمنة المطمئنة، اعتباراً بما أتاحه الله للمذنبين من سعة ورحابة للتوبة والإنابة، وسيدنا موسى، عليه السلام، أجاب عن السؤال عما في يمينه بقوله (هي عصاي، أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى) فقدّم التوكؤ على الهشّ.

لا أقصد بالطبع أن تكون السُّلطة بالحُبّ هلاميّة رخوة، فلو غدت كذلك متهاونة ومتسامحة على امتداد الوقت، لربما استغلها ضعاف النفوس، لصالح مطامح ومطامع شخصية دنيئة، تؤذي العاشق والمعشوق على حد سواء، ومن شعر الحكمة البليغ: «فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً، فليقسُ أحياناً على من يرحم».

ومن حقنا أن نتباهى ونفتخر بأننا نعيش في مجتمع، تربطنا فيه مع بعضنا البعض، علاقة المحبّة الوثيقة، لأننا نُحبُّ الله، عزّ وجلّ، ونحبُّ رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ونحبُّ الوطن وقيادته الرشيدة، وبالحُبّ نقدم نموذجاً أمثل في التلاحم والوحدة، والاعتزاز بما تحقق من إنجازات وما سيتحقق في المستقبل القريب، ولن نبدّل نعمة الله الواسعة كُفراً وجحوداً، لأننا نؤمنُ إيماناً راسخاً بسلطة الحُبّ، التي هي الأسمى والأقوى والأعلى والأبقى على الإطلاق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة